فصل: نَمَاذِج مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.نَمَاذِج مِنْ صَبْرِ أم سلمة:

لأُمِّ سَلَمَة وَمَا حَصلَ لَهَا مِنَ الأَذَى اسْمَهَا هِنْدُ بنْتُ أَبِي أمية سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ مَخْزُومٍ الْمَرْمُوقِينَ وَجَودًا يُقَالَ لَهُ زَادَ الرَّاكِبِ لأَنَّهُ إِذَا سَافَرَ لا يَتْرُكُ أَحَدًا يُرَافِقَهُ وَمَعَهُ زَادٌ بَلْ يَقُومُ بِرِفْقَتِهِ مِنَ الزَّادِ، وَزَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدُ اللهِ بن عَبْدَ الأَسَدِ أَحَدُ الْعَشْرَةِ السَّابِقِينَ إِلَى الإِسْلامِ لَمْ يُسْلِمْ قَبْلَهُ إِلا أَبُو بَكْرٍ وَنَفَرٌ قَلِيلٌ.
أَسْلَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مَعَ زَوْجِها فَكَانَتْ هِيَ الأُخْرَى مِنَ السَّابِقَاتِ إِلَى الإِسْلامِ، وَلَمَّا شَاعَ خَبَرُ إِسْلامِهَا هَاجَتْ قُرَيْشٌ وَجَعَلَتْ تَصُبُّ عَلَيْهِمَا الأَذَى الشَّدِيدِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ بِهِمَا وَلَمْ يُزَلْزِلْهُمَا وَلَمْ يَتَرَدَّدَا.
وَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمَا الأَذَى وَأَذِنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْحَبَشَةِ كَانَا فِي طَلِيعَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَمَضَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا إِلَى دِيَارِ الْغُرْبَةِ وَخَلَّفَتْ وَرَاءَهَا فِي مَكَّةٍ بَيْتَهَا الْفَسِيحِ الْعَالِي، وَعِزَّهَا الشَّامِخُ، وَأقْرِبَائِهَا وَمَالَهَا مُحْتَسِبَةً الأَجْرَ مِنَ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ مُحْتَقِرَةٌ مَا تَرَكَتْ فِي جَانْبِ مَرْضَاةِ اللهِ.
وَبِالرَّغْمِ مِمَّا حَصُلَ لأُمِّ سَلَمَةَ وَمَنْ هَاجَرَ مَعَهَا مِنَ الْحَفَاوَةِ وَالإِكْرَامِ وَالتَّقْدِيرِ، فقَدْ كَانَ الشَّوْقُ يَحْدُوهَا إِلَى مَهْبَطِ الْوَحْي وَإِلَى النَّبِيِّ الْكّرِيمِ.
ثُمَّ تَتَابَعَتْ الأَخْبَارِ عَلَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ بِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي مَكَّةَ قَدْ كَثُرُوا وَاقْتَوُوا وَعُزُّوا، وَأَنَّ إِسْلامَ حَمْزَةَ وَعُمَرَ بن الْخَطَّابِ قَدْ شَدَّ أَزْرَهُمْ وَكَفْكَفَ شَيْئًا مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ عَنْ الْمُسْلِمِينَ.
فَعَزَمَ فَرِيقٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى مَكَّةِ يَحْدُوهُمْ الشَّوْقُ وَيَدْعُوهُمْ الْحَنِينَ، فَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَة وَزَوْجُهَا مَعَ الْعَازِمِينَ عَلَى الْعَوْدَةِ.
لَكْنْ سُرْعَانَ مَا تَبَيْنَ لِلْعَائِدِينَ أَنَّ مَا نُقِلَ لَهُمْ مِنَ الأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مُبَالَغًا فِيهِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ قَابَلُوا زِيَادَةً الْقُوةِ وَالْعِزَّةِ بِالتَّهَوْرِ وَالتَّفَنُنِ فِي التَّعْذِيبِ وَتَرْوِيعِهِمْ وَإِزْعَاجِهِمْ وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ.
عَنْدَ ذَلِكَ أَذِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لأَصْحَابِهِ بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَعَزَمَتْ أُمُّ سَلَمَةَ وَزَوْجُهَا عَلَى الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ لَكِنَّ هِجْرَتَهُمَا لَمْ تَكُنْ كَمَا ظَنَّا أَنَّهَا سَهْلَةٌ بَلْ كَانَتْ صَعْبَةً عَسِرَةً خَلَّفَتْ وَرَاءَهَا مَأْسَاةً تَهُونُ دُونَهَا كُلَّ مَأْسَاةٍ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَمَّا عَزَمَ أَبُو سَلَمَة عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَعَدَّ لِي بَعِيرًا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَجَعَلَ طَفْلَنَا سَلَمَةَ فِي حِجْرِي، وَمَضَى يَقُودُ بِنَا الْبَعِيرَ، وَهُوَ لا يَلْوي عَلَى شَيْء، وَقَبْلَ أَنْ نََفْصِِلَ عَنْ مَكَّةَ رَأَنَا رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ فَتَصَدُّوا لَنَا.
وَقَالُوا لأَبِي سَلَمَة: إِنْ كُنْتَ قَدْ غَلَبْتَنَا عَلَى نَفْسِكَ فَمَا بَالُ امْرَأَتَكَ وَهِي بِنْتِنَا، فَعَلامَ نَتْرُكُكَ تَأْخُذهَا مِنَّا وَتَسِيرُ بِهَا ثُمَّ وَثَبُوا عَلَيْهِ وَانْتَزَعُونِي، وَمَا إِنْ رَآهُمْ قَوْمَ زَوْجِي بَنُو عَبْدِ الأَسَدِ يَأْخُذُونَنِي أَنَا وَطِفْلِي حَتَّى غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا.
وَقَالُوا: لا وَاللهِ لا نَتْرُكَ الْوَلَدَ عِنْدَ صَاحِبَتْكُمْ بَعْدَ أَنْ انْتَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا انْتِزَعًا فَهُوَ ابْنُنَا وَنَحْنُ أَوْلَى بِهِ، قَالَتْ: ثُمَّ طَفِقُوا يَتَجَاذَبُونَ الطِّفْلَ بَيْنَهُمْ حَتَّى ضَرُّوا يَدَهُ وَأَخَذُوهُ.
وَبَعْدَ لَحَظَاتٍ وَجَدْتُ نَفْسِي مُمَزَّقَةَ الشَّمْلِ وَحِيدَةً فَرِيدَةً فَزَوْجِي اتَّجَهَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِرَارًا بِدِينِهِ وَنَفْسِهِ وَوَلَدِي اخْتَطَفَهُ بَنُو عَبْدِ الأسَدِ مِنْ بَيْنَ يَدَيَّ خَطْفًا مُحَطَّمًا مُهَيَّضًا.
أَمَّا أَنَا فقَدْ اسْتَوْلَى عَليَّ بَنُو مُخْزُومٍ قَوْمِي وَجَعَلُونِي عِنْدَهُمْ فَفَرَّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابَنِي فِي سَاعَةٍ قَالَتْ، وَمَنْ ذَلِكَ جَعَلْتُ أَخْرَجَ كُلَّ غَدَاةٍ إَِلَى الأَبْطَحِ فَأَجْلِسُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَهِدَ مَأْسَاتِي، وَاسْتَعِيدُ فِيهَا صُورَةَ اللحَظَاتِ الَّتِي حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَوَلَدِي فِيهَا.
وَأَظَلُّ أَبْكِي حَتَّى يُخَيَّمَ عَلَيَّ الليلِ وَبَقِيتُ عَلَى ذَلِكَ قَرِيبًا مِنْ سَنَةٍ، قَالَتْ: إِلَى أَنْ مَرَّ بِي رَجُلٌ مِنْ بِنِي عَمِّي فَرَقَّ لِحَالِي وَرَحِمَنِي، قَالَ لِبَنِي قَوْمِي: أَلا تَطْلِقُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَوَلَدِهَا وَمَا زَالَ بِهُمْ حَتَّى قَالُوا لِي: الْحِقِي بِزَوْجِكِ إِنْ شَئْتِ.
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: وَلَكِنْ كَيْفَ لِي أَنْ أَلْحِقْ بِزَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ وَاتْرُكُ فَلِذَةَ كَبْدِي وَلَدِي فِي مَكَّة عِنْدَ بَنِي عَبْد الأَسَدِ. قَالَتْ: وَرَأَى بَعْضُ النَّاسِ مَا أُعَالَجُ مِنْ أَحْزَانٍ وَأَشْجَانٍ فَرَقَّتْ قُلُوبُهُمْ لِحَالِي وَكَلَّمُوا بَنِي عَبْد الأَسَد فِي شَأْنِي وَاسْتَعْطَفُوهُمْ عَلَيَّ فَرَدُّوا لِي وَلَدِي سَلَمَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: فَأَعْدَدْتُ بَعِيرِي وَوَضَعْتُ وَلَدِي فِي حِجْرِي وَخَرَجْتُ مُتَوَجِّهَةً إِلَى الْمَدِينَةِ أُرِيدُ زَوْجِي وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ.
قَالَتْ: وَمَا وَصَلْتُ التَّنْعِيمَ حَتَّى لَقِيتُ عُثْمَانَ بن طَلْحَة فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ زَادَ الرَّاكِبِ؟ فَقُلْتُ: أُرِيدُ زَوْجِي فِي الْمَدِينَةِ. قَالَ: أَمَا مَعَكِ أَحَدٌ؟ قُلْتُ: لا وَاللهِ إِلا الله. ثُمَّ ابَنِي هَذَا. قَالَ عثمانُ: وَاللهِ لا أَتْرُكِكِ أَبَدًا حَتَّى تَبْلُغِي الْمَدِينَة. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَة: ثُمَّ أَخَذَ بِخُطَامِ بَعِيرِي وَانْطَلَقَ يَهْوِي بِي قَالَتْ: فوَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَكْرَمَ مِنْهُ وَلا أَشْرَفَ وَسَارَ مَعِي حَتَّى بَلَغْنَا الْمَدِينَةَ.
فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقَرْيَة بِقِبَاء لِبَنِي عَمْرُو بن عَوْفٍ قَالَ: زَوْجُكِ فِي هَذِهِ الْقَرْيَة فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إِلَى مَكَّة وَنَزَلَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَقَرَّتْ عَيْنُهَا بِهِ وَبِوَلَدِهَا.
ثُمَّ بَعْدُ ذَلِكَ شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ بَدْرًا وَعَادَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ انْتَصَرُوا نَصْرًا مُؤْزَّرًا، وَشَهِدَ أُحُدًا وَأَبْلَى بَلاءً حَسَنًا، لَكِنَّهُ خَرَجَ مَنْهَا وَقَدْ جُرِحَ جُرْحًا بَلِيغًا فَمَا زَالَ يُعَالِجَهُ حَتَّى تَوَارَى لَهُ أَنَّهُ قَدْ انْدَمَلَ وَالْتَأَمَ.
لَكِنِ الْجُرْحُ كَانَ بِنَاؤهُ عَلَى فَسَادٍ، فَمَا لَبِثَ أَنْ نَفَرَ وَالْزَمَ أَبَا سَلَمَة الْفَرَاش.
وَبَيْنَمَا أَبُو سَلَمَة يُعَالِجُ جَرْحَه قَالَ لِزَوْجَتِهِ: يَا أُمَّ سَلَمَة سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «لا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيبَةً فَيَسْتَرْجِعُ عِنْدَ ذَلِكَ ويَقُولُ: اللَّهُمَّ عِنْدَكَ احْتَسِبُ مُصِيبَتِي هَذِهِ، اللَّهُمَّ اخُلُفْنِي خَيْرًا مَنْهَا إِلا أَعْطَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ».
وَظَلَّ أَبُو سَلَمَةَ عَلَى فراشِ مَرَضِهِ أَيَّامًا وَفِي ذَات صَبَاحٍ أَقْبَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْتِهِ لِيَعُودُهُ، فَلَمْ يَكَدْ يُجَاوِزُ بَابَ الدَّارِ حَتَّى فَارَقَ أَبُو سَلَمَةَ الْحَيَاةَ.
فَأَغْمَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا سَلَمَةَ وَقَالَ: إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ اتْبَعَهُ الْبَصَرُ وَرَفَعَ صلى الله عليه وسلم طَرْفُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَة وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِّينَ وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ وَافْسَحْ لَهُ قَبْرَهُ وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ». ثُمَّ مَا كَادَتْ تَخْرُجُ مِنْ حِدَادٍ حَتَّى تَتَابَعَ عَلَيْهَا الْخُطَّاب فَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا فَأَبَتْ أَنْ تَسْتَجِيبَ لَهُ. ثُمَّ تَقَدَمَ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ فَرَدَّتْهُ كَمَا رَدَّتْ صَاحِبَهُ.
ثُمَّ تَقَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فِيَّ خِلالاً ثَلاثًا فَأَنَا امْرَأَةٌ شَدِيدَةُ الْغَيْرَةِ فَأَخَافُ أَنْ تَرَى شَيْئًا مِنِّي يُغْضِبُكَ فَيُعَذِّبُنِي اللهُ. وَأَنَا امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلْتُ فِي السِّنِّ وَأَنَا امْرَأَةٌ ذَاتَ عِيالٍ.
فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنْ غِيرتكِ فَإِنِّي أَدْعُو اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُذْهِبَهَا عَنْكَ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ فِي السِّنِّ فَقَدْ أَصَابَنِي مِثْلُ الَّذِي أَصَابَكِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتِ مِنَ الْعِيَالِ فَإِنَّمَا عِيَالُكِ عِيَالِي».
ثُمَّ تَزَوَّجُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهَا وَاخْلَفَهَا خَيْرًا مِنْ أَبِي سَلَمَة.
ومُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْم لَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَط، بَلْ كَانَتْ أُمًّا لِلْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وَأَرْضَاهَا وَجَعَلَ جَنَّةَ الْفِرْدَوْسِ مَثْوَانَا وَمَثْوَاهَا. اهـ.
اللَّهُمَّ أَنْظِمْنَا فِي سِلْكِ الْفَائِزِينَ بِرِضْوَانِكَ، وَاجْعَلنَا مِنَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أَعْدَدْتَ لَهُمْ فَسِيحَ جَنَّاتِكَ، وَادْخِلْنَا بِرَحْمَتِكَ فِي دَارِ أَمَانِكَ، وَعَافِنَا يَا مَوْلانَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة مِنْ جَمِيعِ الْبَلايَا وَاجْزِلْ لَنَا مِنْ مَوَاهِبِ فَضْلِكَ وَهِبَاتِكَ وَمَتِّعْنَا بِالنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فَيَا وَيْحَ مَنْ شَبَّتْ عَلَى الزَّيْغِ نَفْسُهُ ** إِلَى أَنْ دَهَاهَا الشَّيْبُ وَهُوَ نَذِيرُ

وَمَاتَ وَمَا لاقَى سِوَى الْخِزْي وَالشَّقَا ** وَوَبَّخَهُ بَيْنَ الْقُبُورِ نَكِيرُ

وَلاقَى إِلَهَ الْعَرشِ فِي ثَوْبِ حَسْرَةٍ ** وَقَدْ كَانَ فِي ثَوْبِ الْغُرُورِ يَدُورُ

فَقَالَ خُذُوهُ لِلْجَحِيمِ مُكَبَّلاً ** وَصِلُوهُ نَارًا إِنَّهُ لَكَفُورَ

وَيَا فَوْزَ مَنْ أَدَّى مَنَاسِكَ دِينِهِ ** وَعَاشَ سَلِيمُ الْقَلْبِ وَهُوَ طَهُورُ

وَتَابِعَ دِينَ الْحَقِّ فِقْهًا وَحِكْمَةً ** وَلَبِّي نَدَاءَ اللهِ وَهُوَ شَكُورُ

فهَذَا الَّذِي فِي الْخُلْدِ يَنْعَمُ بَالُهُ ** وَتَحْظَوْا بِهِ بَيْنَ الأَرَائِكِ حُورُ

فَلا تُهْمِلُوا يَا قَوْمِ آدَابَ دِينِكُمْ ** فَهَجْرُ طَرِيقِ الأَنْبِيَاءِ فُجُورُ

وَمَا الْعَيْشُ إِلا غَمْضَةٌ وَالْتِفَاتِةٌ ** وَحُلْوُ أَمَانِي فَوْتُهَنَّ مَرِيرُ

وَمَا الْمَرْءُ إِلا طَائِرٌ وَجَنَاحُهُ ** مُرُووْ لَيَالِي الْعُمْرِ وَهُوَ قَصِيرُ

وَمَا الْمَوْتُ إِلا جَارِحٌ لا يَعُوقُهُ ** إِذَا انْقَضَّ بُنْيَانٌ عَلا وَقُصُورُ

وَرَامِي الْمَنَايَا لا تُرَدُّ سِهَامُهُ ** سَوَاءٌ لَدَيْهَا حَاكِمٌ وَحَقِيرُ

وإنَّا وَإِنْ عِشْنَا زَمَانًا مُطَوَّلاً ** وَطَابَ لَدَيْنَا الْعَيْشَ وَهُوَ نَظْيرُ

فَبَطْنُ الثَّرَى حَتْمًا مَحَطُ رِحَالِنَا ** وَهَلْ ثَمَّ حَيٌّ مَا حَوَتْهُ قُبُورُ

وَيَا لَيْتَهَا كَانَتْ نِهَايَةُ ضَعْنِنَا ** وَلَكِنَّ عُقْبَى الظَّاعِنِينَ نُشُورُ

وَحَشْرٌ مُهَوَّلٌ وَازْدِحَامٌ بِمَوْقِفٍ ** عَلَى كُلِّ إِخْوَانِ الضِّيَاع عَسِيرُ

وَمَصْرَفُهُ سِجْنٌ لِمَنْ عَاشَ لاهِيًا ** بِهِ لَهَبٌ يَشْوِي الحَشَا وَسَعِيرُ

وُخُضْرُ جِنَانِ لِلَّذِي مَاتَ تَائِبًا ** وَكَانَ لَهُ فِي الدَّاجِيَاتِ زَفِيرُ

فَلا تُسْلِمُوا لِلنَّارِ حَرَّ وُجُوهِكُمْ ** وَلا تُغْضِبُوا الرَّحْمَنَ فَهُوَ غَيُورُ

وَتُوبُوا إِلَيْهِ وَاسْأَلُوهُ حَنَانَهُ ** فَوَاللهِ رَبِّي إِنَّهُ لَغَفُورُ

وَلا يَغْتَرِرْ ذُو الْجَاهِ مِنْكُمْ بِجِاهِهِ ** فَأَكْبَرُ عَاتٍ فِي الْمَعَادِ حَقِيرُ

وَعَنْ جَاهِهِ وَالْمَال مَنْ مَاتَ ** خَارِجٌ وَأَغْنَى غَنِيٍ إِذْ يَمُوتُ فَقِيرُ

وَلا تُلْهِكُمْ دُنْيًا أَبَادَتْ وَأَهْلَكَتْ ** مُلُوكَ قُرُونٍ عَدُّهُنَّ كَثِيرُ

وَإِنَّا وَإِنْ كَانَتْ أَسَافِلُ قَوْمَنَا ** تَسَاوَى لَدَيْهُمْ مُؤْمِنٌ وَكَفُورُ

وَبَاعُوا بِدُنْيَاهُمْ فَضَائِلَ دِينِهِمْ ** وَفَاسِقُهُمِ لِلْمَاكِرِينَ نَصِيرُ

فقَدْ أَسْخَطُوا الرَّحْمَنَ حَتَّى أَهَانَهُمْ ** وَلَيْسَ لَهُمْ لِلإِنْتِقَامِ شُعُورُ

فَمِنَّا أُنَاسَ فِي الدَّيَاجِي نَوَاحُهُمْ ** تَبين لَهُمْ عِنْدَ البُكَاء صُخُورُ

يُنَادِوْنَ يَا رَحَمْنَ لُطْفًا فَإِنَّنَا ** عَهِدْنَاكَ عَطْفًا لِلْمَلْهُوفِ تُجِيرُ

فَيَا مُصْلِحَ الأَحْوَالِ جَمِّلْ شُؤُونَنَا ** فأَنْتَ لإِِصْلاحِ الشُّؤُونِ جَدِيرُ

وأَنْتَ إِلَهُ الْعَالَمِينَ بَأَسْرِهِمْ ** وَأَنْتَ سَمِيعٌ عَالِمٌ وَبَصِيرُ

فَلا يَأْسَ إِذْ أَنْتَ الْقَدِيرُ وَكُلُّ مَنْ ** تَوَلاهُ يَأْسٌ مِنْكَ فَهُوَ كَفُورُ

وَصَلَّ وَسَلِّمْ يَا إِلَهِي تَفَضُّلاً ** عَلَى مَنْ بِذِكْرَاهُ الْقُلُوبُ تُنِيرُ

مُحَمَّدُ قُطْبُ الْمَرْسَلِينَ وَمَنْ رَحَى ** رِسَالَتِهِمْ جَمْعًا عَلَيْهِ تَدُورُ

اللَّهُمَّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ طَهِّرْ قُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَعَمَلَنَا مِنَ الرِّيَاءِ وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْكَذِبِ وَأَعْيُنَنَا مِنَ الْخِيَانَةِ إِنَّكَ تَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورِ. وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

.نَمَاذِج مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ:

نَمَاذِجٌ مِنْ سِيرَةِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ الْمُخْلَصِينَ وَنُصْحِهِمْ لِوُلاةِ الأُمُورِ وَبُعْدِهِمْ عَنْ الطَّمَعِ وَالْجَشَعِ عَكْسَ مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ عُلَمَاءِ هَذَا الزَّمَان.

.نصيحة الأَوْزَاعِيِّ لأَبُي جَعْفَرٍ الْمَنْصُور:

عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَبْد الرَّحْمَنِ بن عَمْرو قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا بِالسَّاحِلِ فَأَتَيْتُهُ، فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَيْهِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلافَةِ، رَدَّ عَلَيَّ وَاسْتَجْلَسَنِي، ثُمَّ قَالَ لِي: مَا الَّذِي أَبْطَأَ بِكَ عَنَّا يَا أَوْزَاعِيُّ.
قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الَّذِي تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: أُرِيدُ الأَخَذَ عَنْكُمْ وَالاقْتِبَاسَ مِنْكُمْ. قَالَ فَقُلْتُ: فَانْظُرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لا تَجْهَلَ شَيْئًا مِمَّا أَقُولُ لَكَ، قَالَ: كَيْفَ أَجْهَلُهُ وَأَنَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَفِيهِ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ وَأَقْدَمْتُكَ لَهُ.
قَالَ: قُلْتُ: أَخَافُ أَنْ تَسْمَعَهُ، ثُمَّ لا تَعْمَلَ بِهِ، قَالَ: فَصَاحَ بِي الرَّبِيعُ وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّيْفِ، فَانْتَهَرُهُ الْمَنْصُورُ وَقَالَ: هَذَا مَجْلِسُ مَثُوبَةٍ لا مَجْلِسَ عُقُوبَةٍ فَطَابَتْ نَفْسِي، وَانْبَسَطَتُ فِي الْكَلامِ.
فقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ بِشرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا عَبْدٍ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ، فَإِنَّ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلا كانَتْ حُجَّةً مِنَ اللهِ عَلَيْهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا وَيَزْدَادَ اللهُ بِهَا سَخَطًا عَلَيْهِ».
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُول عَنْ عَطِيَّةَ بن يَاسِر قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَيُّمَا وَالٍ مَاتَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّة».
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَرِهَ الْحَقَّ فقَدْ كَرِهَ اللهُ، إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، إِنَّ الَّذِي لَيَّنَ قُلُوبَ أُمَّتُكُمْ لَكُمْ حِينَ وَلاكُمْ أُمُورَهُمْ لِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ كَانَ بِهُمْ رَؤوفًا رَحِيمًا مُوَاسِيًا لَهُمْ بِنَفْسِهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللهِ وَعَنْدَ النَّاسِ، فَحَقِيقٌ بِكَ أَنْ تَقُومَ لَهُ فِيهِمْ بِالْحَقِّ، وَأَنْ تَكُونَ بِالْقِسْطِ لَهُ فِيهِمْ قَائِمًا وَلِعَوْرَاتِهِمْ سَاتِرًا لا تُغْلَقْ عَلَيْكَ دُونَهُمْ الْحِجَابَ، تَبْتَهِجْ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ وَتَبْتَئِسْ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سُوءٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ كُنْتَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِكَ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ أَصْبَحْتَ تَمْلِكُهُمْ أَحْمَرَهُمْ وَأَسْوَدَهُمْ مُسْلِمَهُمْ وَكَافِرَهُمْ وَكُلٌّ لَهُ عَلَيْكَ نَصِيبٌ مِنَ الْعَدِلِ، فَكَيْفَ بِكَ إِذَا انَبْعَثَ مِنْهُمْ فِئَامٌ، ولَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ يَشْكُو بَلِيَّةً أَدْخَلْتَهَا عَلَيْهِ أَوْ ظَلامَةً سُقْتَهَا إِلَيْهِ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ عَنْ عُرْوَةَ بن رُوَيْم قَالَ: كَانَ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَرِيدَةٌ يَسْتَاكُ بِهَا وَيُرَوِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدٌ مَا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ الَّتِي كَسَرْتَ بِهَا قُلُوبَ أُمَّتِكَ وَمَلأْتَ قُلُوبَهُمْ رُعْبًا؟ فَكَيْفَ بِمَنْ شَقَّقَ أَسْتَارَهُمْ وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ، وَأَجْلاهُمْ عَنْ بِلادِهِمْ وَغَيَّبَهمْ الْخَوْفُ مِنْهُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولُ عَنْ زِيَادةِ عَنْ حَارِثَةَ عَنْ حَبِيبِ بن مَسْلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَعَا إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ نَفْسِهُ فِي خَدْشٍ خَدَشَهُ أَعْرَابِيٌّ لَمْ يَتَعَمَّدَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثَكَ جَبَّارًا وَلا مُتَكَبِّرًا. فَدَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الأَعْرَابِيَّ فَقَالَ: «اقْتَص مِنِّي». فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ قَدْ أَحْلَلْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، وَمَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَلَوْ أَتَيْتَ عَلَى نَفْسِي. فَدَعَا لَهُ بخَيْرٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَضِّ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ، وَخُذْ لَهَا الآمَانَ مِنْ رَبِّكَ وَارْغَبْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَات وَالأَرْض، الَّتِي يَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَقَيْدُ قَوْسِ أَحَدِكمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمُلْكَ لَوْ بَقِيَ لِمَنْ قَبْلكَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ، وَكَذَا لا يِبْقَى لَكَ كَمَا لَمْ يَبْقَ لِغَيْرِكَ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا}.
قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّم وَالْكَبِيرةُ الضَّحِك. فَكَيْفَ بِمَا عَمِلَتْهُ الأَيْدِي وَحَصَدَتْهُ الأَلْسُنُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ مَاتَتْ سِخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضُيِّعَتْ لَخَشِيتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا، فَكَيْفَ مِمَّنْ حُرِمَ عَدْلُكَ وَهُوَ عَلَى بُسَاطِكَ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الآيَة عَنْ جَدِّكَ {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الزبور: يَا دَاودُ إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ، فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهُمَا هَوَى، فَلا تَتَمَنَّيَنَ فِي نَفْسِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيَفْلَحُ عَلَى صَاحِبِه، فَأَمْحُوكَ عَنْ نُبُوَّتِي ثُمَّ لا تَكُونُ خَلِيفَتِي، وَلا كَرَامَةَ، يَا دَاودُ إِنَّمَا جَعَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي رُعَاةً كَرُعَاةِ الإِبِلِ، لِعِلْمِهِمْ بِالرِّعَايَةِ وَرِفْقِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ لِيَجْبُرُوا الْكَسِيرَ وَيُدَلِّهُوا الْهَزِيلَ عَلَى الْكَلاءِ وَالْمَاءِ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِأَمْرٍ لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ لأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلَنَّهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بن جَابِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عُمْرَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَرَآهُ بَعْدَ أَيَّامٍ مُقِيمًا فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَمَلِكَ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لَكَ مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهَدِ فِي سِبِيلِ اللهِ. قَالَ: لا. ثُمَّ قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ وَالٍ يَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ إِلا أُتِي بِهِ يَوْمَ الْقِيامَة مَغْلُولَةٌ يَدَه إِلَى عُنُقِهِ، لا يَفُكَّهَا إِلا عَدْلُهُ، فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرٍ مِنَ النَّارِ يَنْتَفِضُ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرِ انْتِفَاضَةً تُزِيلُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، ثُمَّ يُعَادُ فَيُحَاسَبُ، فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَا بِإِحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرُ فَيَهْوَى بِهِ فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَّنْ سَمِعْتَ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي ذَرٍّ وَسَلْمَانٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عُمَرُ فَسَأَلَهُمَا فَقَالا: نَعَمْ. سَمِعْنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عُمَرُ: وَاعُمَرَاهُ مَنْ يَتَوَلاهَا بِمَا فِيهَا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَنْ سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ، وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالأَرْضِ. قَالَ. فَأَخَذَ الْمَنْدِيلَ فَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ بَكَى وَانْتَحَبَ حَتَّى أَبْكَانِي.
ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ سَأَلَ العَبَّاسُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِمَارَةَ مَكَّة أَوْ الطَّائِف أَوْ الْيَمَن، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبَّاسٌ يَا عَمَّ النَّبِيِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ أَمَارَةٍ لا تُحْصِيهَا». نَصْيحَةٌ مِنْهُ لِعَمِّهِ وَشَفَقَةٌ عَلَيْهِ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}، فَقَالَ: «يَا عَبَّاسُ وَيَا صَفِيَّةُ وَيَا فَاطِمَةُ بِنْت مُحَمَّدٍ إِنِّي لَسْتُ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنَّ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ». وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لا يَقْسِمُ أَمْرَ النَّاسِ إِلا حَصِيفُ الْعَقْلِ أَرِيبُ الْعَقَدِ، لا يَطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ، لا يُخَافُ مِنْهُ عَلَى حُرَّةٍ، وَلا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وَقَالَ: الأُمَرَاءُ أَرْبَعَةٌ: فَأَمِيرٌ قَوِي ظَلفَ نَفْسَهُ وَعُمَّالَهُ، فَذَلِكَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ يَدُ اللهِ بَاسِطَةٌ عَلَيْهِ الرَّحْمَة. وَأَمِيرٌ فِيهِ ضَعْفٌ ظَلفَ نَفْسَهُ وَأَرْتَعَ عُمَّالَهُ لِضَعْفِهِ، فَهُوَ عَلَى شَفَاءِ هَلاكٍ إِلا أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ، وَأَمِيرٌ ظَلفَ عُمَّالُهُ لِضَعْفِهِ وَارْتَعَ نَفْسَهُ فذَلِكَ الْحُطَمَة، الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «شَرُّ الرِّعَاءِ الْحُطَمَةُ». فَهُوَ الْهَالِكُ وَحْدَهُ، وَأَمِيرٌ أَرْتَعَ نَفْسهُ وَعُمَّالُهُ فَهَلَكُوا جَمِيعًا.
وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتَيْتُكَ حِين أَمَرَ اللهُ بِمُنَافِخِ النَّارِ فَوُضِعَتْ عَلَى النَّارِ تُسَعَّرُ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. فَقَالَ لَهُ: «يَا جِبْرِيلُ صِفْ لِيَ النَّارَ». فَقَالَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا فَأَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اصْفَرَّتْ، ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَتْ، فَهِيَ سَوْدَاءٌ مٌظْلِمَةٌ، لا يُضِئُ جَمْرُهَا، وَلا يُطْفَأُ لَهَبُهَا، والَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيابِ أَهْلِ النَّارِ أُظْهِرَ لأَهْلِ الأَرْضِ لَمَاتُوا جَمِيعًا وَلَوْ أَنَّ ذَنُوبًا مِنْ شَرَابِهَا صُبَّ فِي مِيَاهِ الأَرْضِ جَمِيعًا قَتَلَ مَنْ ذَاقَهُ، وَلَوْ أَنْ ذِرَاعًا مِنَ السّلْسلَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الأَرْضِ جَمِيعًا لَذَابَتْ وَمَا اسْتَقَلَّتْ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً ادْخِلَ النَّارَ ثُمَّ أُخْرِجَ مَنْهَا لَمَاتَ أَهْلُ الأَرْضِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهُ وَعِظَامِهِ. فَبَكَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَبَكَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ لِبُكَائِهِ؟ فَقَالَ: أَتَبْكِي يَا مُحَمَّدٌ وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخْرَ، فَقَالَ: «أَفَلا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا، وَلَمْ بَكَيْتَ يَا جِبْرِيلُ وَأَنْتَ الرُّوحُ الأَمِينُ أَمِينُ الله عَلَى وَحْيِهِ. قَالَ: أَخَافُ أَنْ أُبْتَلِي بِمَا ابْتُلِي بِهِ هَارُوتٌ وَمَارُوتُ، فَهُو الَّذِي مَنَعَنِي مِنَ اتِّكَالِي عَلَى مَنْزِلَتِي عِنْدَ رَبِّي، فَأَكُونُ قَدْ أَمِنْتُ مَكْرَهُ، فَلَمْ يَزَالا يَبْكِيانِ حَتَّى نُودِيَا مِنَ السَّمَاءِ، يَا جِبْرِيلُ، وَيَا مُحَمَّدٌ إِنَّ اللهَ قَدْ أَمْكَنَكُمَا أَنْ تَعْصِيَاهُ، فَيُعَذِبَاكُمَا، وَفَضْلُ مُحَمَّدٍ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ كَفَضْلِ جَبْرِيلِ عَلَى سَائِرِ الْمَلائِكَةِ».
وقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُبَالِي إِذَا قَعَدَ الْخِصْمَانِ بَيْنَ يَدَيّ عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ، فَلا تُمْهِلْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ.
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ أَشَدَّ الشِّدَّةِ الْقِيامُ للهِ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ عَنْ الله التَّقْوَى، وَإِنَّهُ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّ بِطَاعَةِ اللهِ رَفَعَهُ اللهُ وَأَعَزَّهُ. وَمَنْ طَلَبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَذَلَّهُ، وَوَضَعَهُ، فَهَذِهِ نَصِيحَتِي إِلَيْكَ وَالسَّلامُ عَلَيْكَ، ثُمَّ نَهَضْتُ. فَقَالَ لِي: إِلَى أَيْنَ؟ فَقُلْتُ: إِلَى الْوَلَدِ وَالْوَطَنِ، بِإِذْنِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ. فَقَالَ: قَدْ أَذِنْتَ لَكَ، وَشَكَرْتُ لَكَ نَصِيحَتُكَ، وَقَبِلْتُهَا، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لِلْخَيْرِ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ، وَبِهِ أَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ أَتَوَكَلُ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيل فَلا تَخْلني بِمُطَالَعَتِكَ إِيَّايَ، بِمِثْلِ هَذَا فَإِنَّكَ الْمَقْبُولُ الْقَوْلَ غَيْرُ الْمُتَهَم فِي النَّصِيحَةِ. قُلْتُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ. وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.